فصل: تفسير الآية رقم (168):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (167):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [167].
{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ} أي: آذن، كتوعد بمعنى أوعد، من الإيذان بمعنى الإعلام، أُجري مجرى فعل القسم، كعلم الله، وشهد الله.
ولذلك أجيب بما يجاب به القسم، وهو قوله: {لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ} والمعنى: وإذ ختم ربك وحكم ليسلطن على اليهود: {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} كالإذلال وضرب الجزية وغير ذلك، بسبب عصيانهم ومخالفتهم أوامر الله وشرعه، واحتيالهم على المحارم، وقد بعث الله تعالى بعد سليمان عليه السلام بختنصر مالك بابل، فخرب ديارهم، وقتل مقاتلتهم، وسبى نساءهم وذراريهم، وضرب الجزية على من بقي منهم، وجلى كثيراً منهم إلى بابل- قصبة ممكلته- وأقاموا فيها سبعين سنة، ثم تسلطت عليهم ملوك شتى، ولبثوا زماناً طويلاً يكابدون بلاء عنيفاً، من تواتر تسلطت عليهم ملوك شتى، ولبثوا زماناً طويلاً يكابدون بلاء عنيفاً، من تواتر الحروب على بلادهم، إلى أن صاروا جميعاً تحت سلطة الرومان، بعد ولادة عيسى عليه السلام بإحدى وسبعين سنة، واستؤصلوا من أرضهم، تفرقوا في البلاد شذر مذر، صاغرين مقهورين.
ومن ها هنا، استدل من استدل بأنهم لا يكون لهم دولة ولا عز، وباتصال ذلهم.
{إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ} لمن أقام على كفره، ونبذ وصاياه: {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: لمن تاب وآمن وعمل صالحاً.
ثم أخبر تعالى عن تبددهم في الأقطار بقوله:

.تفسير الآية رقم (168):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [168].
{وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً} أي: فرقنا بني إسرائيل في الأرض، وجعلنا كل فرقة منهم في قطر من أقطارها، بحث لا تخلو ناحية منها منهم، تكملة لإدبارهم حتى لا تكون لهم شوكة.
{مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} أي: من ينحط عن درجة الصلاح، لكفر أو فسق {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ} أي: النعم والنقم التي هي أمثلة جزاء الصلاح والفسق {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي: عن أسباب السيئات إلى الحسنات.

.تفسير الآية رقم (169):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مُّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [169].
{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ} أي: من بعد هؤلاء المذكورين {خَلْفٌ} أي: بدل سوء، والمراد بهم الذين كانوا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والخلف مصدر، ولذا يوصف به المفرد وغيره، وقد شاع في الطالح، ومفتوح اللام بالصالح، وربما جاء عكسه.
{وَرِثُواْ الْكِتَابَ} أي: التوراة من أسلافهم المختلفين، يقرؤونها ويقفون على ما فيها من الأوامر والنواهي، والتحليل والتحريم، ولا يعملون بها كما قال: {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى} أي: حطام هذا الشيء الأدنى، يريد الدنيا، وما يتمتع به منها.
وفي قوله: {هَذا الأدْنى} تخسيس وتحقير. والعرض بفتح الراء، ما لا ثبات له، ومنه استعار المتكلمون العرض لمقابل الجوهر.
والأدنى إما من الدنو، بمعنى القرب، لأنه عاجل قريب بالنسبة إلى الآخرة، وإما من دنو الحال وسقوطها وقلتها.
{وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} أي: يعتاضون عن بذل الحق ونشره، بعرض الحياة الدنيا، ويتحكمون على الله تعالى بأنه لا يؤاخذهم بما أخذوا.
{وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مُّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} الواو للحال، أي: يرجون المغفرة، وهم مصرون عائدون إلى مثل فعلهم، غير تائبين، كلما لاح لهم مثل الأول أخذوه.
{أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ} أي: الميثاق الوارد فيه، {أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} أي: فلوا صح ما تحكموا به على الله، لم يكن لأخذ هذا الميثاق معنى.
ثم أخبر تعالى أن أخذهم ليس عن جهلهم بذلك الميثاق بقوله: {وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ} أي: قرؤوا ما في الكتاب من الميثاق مرة بعد مرة.
{وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ} أي: من ذلك العرض الخسيس {لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} أي: أخذ هذا الأدنى بدل كتم الحق.
{أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أي: فتعلموا ذلك، فلا تستبدلوا الأدنى المؤدي إلى العقاب، بالنعيم المخلد، وقرئ بالياء، وفي الإلتفات تشديد للتوبيخ.
ثم أثنى تعالى على تمسك بكتابه الذي يقوده إلى اتباع رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، كما هو مكتوب فيه، بقوله سبحانه:

.تفسير الآية رقم (170):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [170].
{وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ} أي: يتمسكون به في أمور دينهم. يقال: مسك بالشيء وتمسك به. وقرئ {يُمْسكون}، من الإمساك، وتمسكوا واستمسكوا.
{وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} من وضع الظاهر موضع المضمر، تنبيهاً على أن الإصلاح كالمانع من التضييع، لأن التعليق بالمشتق يفيد علة مأخذ الاشتقاق فكأنه قيل: لا نضيع أجرهم لإصلاحهم.
فإن قلت: التمسك بالكتاب يشتمل على كل عبادة، ومنها إقامة الصلاة، فكيف أفردت؟
أجيب: بأن إفرادها، إظهاراً لمزية الصلاة لكونها عماد الدين، وفارقة بين الكفر والإيمان.
قال الجشمي: تدل الآية على وعيد المعرض عن الكتاب، وعد من تمسك به، تنبيهاً لنا وتحذيراً عن سلوك طريقتهم. وتدل على أن الاستغفار باللسان، وتمني المغفرة لا ينفع حتى يكون معهما التوبة والعمل.

.تفسير الآية رقم (171):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [171].
{وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ} أي: رفعناه: {كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} أي: سحابة: {وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} أي: ساقط عليهم، لأن الجبل لا يثبت في الجو.
{خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم} أي: وقلنا، أو قائلين: خذوا ما آتيناكم من أحكام التوراة: {بِقُوَّةٍ} أي: عزيمة وجد: {وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ} أي: بالعمل ولا تتركوه كالمنسي: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أي: مساوئ الأعمال، أو راجين أن تنظموا في سلك المتقين. وهذه الآية كقوله: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّور}.
وقد روي عن ابن عباس وغيره من السلف: أنهم راجعوا موسى في فرائض التوراة وشرائعها، حتى رفع الله الجبل فوق رؤوسهم، فقال لهم موسى: ألا ترون ما يقول ربي عز وجل؟ لئن لم تقبلوا التوراة بما فيها، لأرمينكم بهذا فخروا سجداً، فَرَقاً من أن يسقط عليهم. رواه النسائي وسُنَيْد.

.تفسير الآية رقم (172):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [172].
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} أي: أخرج من أصلابهم نسلهم على ما يتوالدون قرناً بعد قرن، من أنهم كانوا نطفة قذفت إلى رحم الأمهات، ثم جعلت علقة، ثم مضغة، ثم أنشأهم بشراً سوياً حياً مكلفاً، فجعل خلقه إياهم كذلك، إخراجاً من أصلابهم، لأن أصلهم خرج منها، و{مِن ظُهُورِهِمْ} بدل من: {بني آَدَمَ} بدل البعض، وقرئ {ذرياتهم}.
{وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} أي: أشهد كل واحدة من أولئك الذاريات المأخوذين من ظهور آبائهم على نفسها، تقريراً لهم بربوبيته التامة.
قال الجشمي: أي: أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من دلائل وحدانيته، وعجائب خلقته، وغرائب صنعته، من أعضاء سوية، وحواس مدركة، وجوارح ظاهرة، وأعصاب وعروق وغير ذلك، مما يعلمه من تفكر فيه، وكلها تدل عليه وعلى صفاته ووحدانيته، فبالإشهاد بالأدلة، صار كأنه أشهدهم بقوله.
وقوله تعالى: {أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ} على إرادة القول، أي: قائلاً ألست بربكم، ومالك أمركم ومربيكم على الإطلاق، من غير أن يكون لأحد مدخل في شأن من شؤونكم، فينتظم استحقاق المعبودية، ويستلزم اختصاصه به تعالى: {قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا} أي: على أنفسنا بأنك ربنا وإلهنا لا رب غيرك، لأنهم بما ظهر عليهم من آثار الصنعة صاروا كأنهم قالوا: {بلى}، وإن لم يكن هناك قول باللسان.
فالآية من باب التمثيل المعروف في كلام العرب، مثل تعالى خلقهم على فطرة التوحيد، وإخراجهم من ظهور آبائهم، شاهدين بربوبيته شهادة لا يخالجها ريب، بحمله إياهم على الإعتراف بها بطريق الأمر، ومسارعتهم إلى ذلك من غير تلعثم أصلاً.
والقصد من الآية الإحتجاج على المشركين بمعرفتهم ربوبيته تعالى معرفة فطرية، لازمة لهم لزوم الإقرار منهم والشهادة. قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}، والفطرة هي معرفة ربوبيته.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟».
والجمعاء سالمة الأذن والجدعاء مقطوعتها.
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يقول إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم».
وروى الطبري عن الحسن عن الأسود بن سريع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها فأبواها يهوّدانها أو ينصّرانها».
قال الحسن: والله لقد قال الله في كتابه: {وإِذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بِني آَدمَ} الآية- رواه الإمام أحمد والنسائي- بدون استشهاد الحسن بالآية.
وأما الأخبار المروية في إخراج الذرية من صلب آدم عليه السلام، وتكليمه تعالى إياهم ونطقهم، ثم إعادتهم إلى صلب أبيهم، فغير صحيحة الإسناد.
وما حسن إسناده منها فغير صريح في ذلك، بل هو أقرب إلى ألفاظ الآية، كما بينه الحافظ ابن كثير، قال رحمه الله:
ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف: إن المراد بهذا الإشهاد فطرهم على التوحيد كما تقدم في حديث أبي هريرة وعياض والأسود. وقد فسر الحسن الآية بذلك.
قالوا: ومعنى أشهدهم أي: أوجدهم شاهدين بذلك، قائلين له حالاً وقالاً.
والشهادة تارة تكون بالقول، كقوله: {قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا} الآية، وتارة تكون حالا كقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْر} أي: حالهم شاهداً عليهم بذلك، لأنهم قائلون ذلك، وكذا قوله تعالى: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ}، كما أن السؤال تارة يكون بالقال، وتارة يكون بالحال، كقوله: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوه}.
قالوا: مما يدل على أن المراد هذا، أن جعل الإشهاد حجة عليهم في الإشراك، فلو كان قد وقع كما قاله من قاله، لكان كل أحد يذكره ليكون حجة عليه.
فإن قيل: إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم به كاف في وجوده، فالجواب: أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره، وهذا جعل حجة مستقلة عليهم، فدل على أنه الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد.
{أَن تَقُولُواْ} أي: كراهة أن تقولوا.
{يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي: الذي يسأل فيه عن الربوبية والتوحيد.
{إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا} أي: عن ربوبيته وتوحيده {غَافِلِينَ} أي: لم ننبه عليه.
فإنهم حيث جبلوا على ما ذكر، صاروا محجوبين عاجزين عن الإعتذار بذلك، إذ لا سبيل لأحد إلى إنكار ما ذكر من خلقهم على الفطرة السليمة.

.تفسير الآية رقم (173):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [173].
{أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا} أي: سنوا الإشراك واخترعوه: {مِن قَبْلُ} أي: من قبل زماننا: {وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ} أي: فنشأنا على طريقتهم، احتجاجاً بالتقليد، وتعويلاً عليه، فقد قطعنا العذر بما بيّنا من الآيات.
{أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} أي: أتؤاخذنا بما فعل آباؤنا من الشرك، وأسسوا من الباطل، أو بفعل آبائنا الذي أبطلوا تأثير والعقول، وأقوال الرسل؟ والإستفهام للإنكار، أي: أنت حكيم لا تأخذ الأبناء بفعل الآباء، وقد سلكنا طريقهم والحجة عليهم بما شعروا لنا من الباطل.
والمعنى: أزلنا الشبهتين بأن الإقرار بالربوبية والتوحيد، هو في أصل فطرتكم، فلم لم ترجعوا إليه عند دعوة العقول والرسل؟ والفطرة أكبر دليل، فهي تسد باب الإعتذار بوجه ما، لاسيما والتقليد عند قيام الدلائل، والقدرة على الإستدلال بها، مما لا مساغ له أصلاً.
تنبيهات:
الأول: وافق الإمام ابن كثير، في هذا المقام أيضاً الجشمي في تفسيره، قال: ويروي أصحاب الحديث أسلافهم من الآثار موقوفة ومرفوعة، ويجعلون ذلك تأويلاً للآية، وهو أنه تعالى مسح ظهر آدم، فأخرج منه ذريته، أمثال الذر، فقال: ألست بربكم؟ فقالوا: بلى طائعين، ثم أعادهم في صلب آدم. وإن تأويل الآية على ذلك.
قال: وقد ذكر مشايخنا رحمهم الله أن ذلك فاسد، وأن ظاهر الآية يخالف ذلك، وذكروا في الرواية ما نذكره.
قالوا: فمما يدل على فساده وجوه:
منها: أنه لو كان حال كما ذكروا، لذكرناه، لأن مثل ذلك الأمر العظيم لا ينساه العاقل، خصوصاً إذا كان أشهاداً عليه، ليعمل به.
ومنها: ما ذكره شيخنا أبو علي، أن ظهر آدم لا يسع هذا الجمع العظيم، وهذا شنيع من الكلام.
ومنها: أنه ذكر أنه خلقنا من نطفة، وكل ولد ولد من أب ومن نطفة، فلو خلقهم ابتداء لا من شيء، لم يصح ذلك.
ومنها: أن الجزء الواحد، لا يجوز أن يكون حياً عاقلاً، لأن تلك البنية، لا تحمل الحياة، فلابد من أن يكون مؤلفاً من أجزاء، وحينئذ لا يصح أن يكون الجميع في ظهر آدم.
ومنها: أنه يفتح باب التناسخ، والقول بالرجعة، لأن لهم أن يقولوا: إذا جاز الإعادة ثمة، لم ينكر التناسخ.
ومنها: أنه لابد أن يكون فيه فائدة، وفائدته أن يذكره ليجري على تلك الطريقة، وإذا لم يذكره بطلت فائدته.
ومنها: أن الإعتراف لا يصح إلا وقد تقدم حال لهم عرفوا ذلك، فكيف يصح في ابتداء الخلق، إلى غير ذلك مما لا يقبله العقل.
ثم قال: قال مشايخنا رحمهم الله: والآية ظاهرها بخلاف قولهم من وجوه:
منها: أنه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ} ولو يقل: من آدم. وقال: {مِن ظُهُورِهِمْ} ولم يقل: من ظهره، وقال: {ذُرِّيَّتَهُمْ} ولم يقل: ذريته.
ومنها: أنه قال: {أَن تَقُولُواْ} يعني فعل ذلك، لكيلا تقولوا: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} وأي غفلة أعظم من أن جميع العقلاء لا يذكرون شيئاً من ذلك.
ومنها: أنه قال: {إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا} ولم يكن لهم يومئذ أب مشرك.
وكل ذلك يبين فساد ما قالوا، ولم يصحح أحد من مشايخنا هذه الرواية، ولا قبلها، بل ردها، غير أبي بكر أحمد بن علي، فإنه جوز ذلك من غير قطع على صحته، غير أنه قال: ليس ذلك بتأويل الآية، وذكر أن فائدة ذلك أن يجروا على الأعراق الكريمة في شكر النعمة، والإقرار بالربوبية.
كما قال: إنهم ولدوا على الفطرة، قال: وأخرجهم كالذر ثم ألهمهم حتى قالوا بلى. انتهى ما قاله الجشمي.
الثاني: استدل بهذه الآية والأحاديث المتقدمة في معناها، أن معرفته تعالى فطرية ضرورية، قال تعالى: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكّ}، وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}.
{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ}.
وعن عِمْرَان بن حصين قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي: «يا حصين: كم تعبد اليوم إلهاً؟» قال أبي: سبعة، ستاً في الأرض، وواحداً في السماء؟ قال: «فأيهم تُعد لرغبتك ورهبتك؟» قال: الذي في السماء.- رواه الترمذي-
فالله تعالى فطر الخلق كلهم على معرفته فطرة توحيد، حتى من خلق مجنوناً مطبقاً مصطلماً لا يفهم شيئاً، ما يحلف إلا به، ولا يلهج لسانه بأكثر من اسمه المقدس، فطرة بالغة.
قال التقي ابن تيمية: إن الإقرار والإعتراف بالخالق فطري ضروري في نفوس الناس، وإن كان بعض الناس قد يحصل له ما يفسد فطرته، حتى يحتاج إلى نظر، يحصل له به المعرفة وهذا قول جمهور الناس، وعليه حذاق النظار أن المعرفة تحصل بالضرورة، وقد تحصل بالنظر لمن فسدت فطرته، كما اعترف بذلك خلائق من أئمة المتكلمين.
وقال أيضاً: ذهب طوائف من النظار إلى أن معرفة الله واجبة، ولا طريق لها إلا بالنظر فأوجبوا النظر على كل أحد. وهذا القول إنما اشتهر في الأمة عن المعتزلة ونحوهم.
ولهذا قال أبو جعفر السمناني وغيره: إيجاب الأشعري النظر في المعرفة بقية بقيت عليه من الإعتزال.
وذكر رحمه الله أن الذي يدل عليه كلامه الأئمة والسلف- وهو أعدل الأقوال- أن النظر يجب في حال دون حال، وعلى شخص دون شخص، فوجوبه من العوارض التي تجب على بعض الناس في بعض الأحوال، لا من اللوازم العامة.
والذين أوجبوا النظر ليس معهم ما يدل على عموم وجوبه، إنما يدل على أنه قد يجب، كقوله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض}، وقوله: {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ} فإنه خطاب مع المتكبرين الجاحدين، أُمروا بالنظر، ليعرفوا الحق، ويقروا به، ولا ريب أن النظر يجب على هؤلاء.
قال أبو حيان التوحيدي في مقابساته، في المقابسة الثانية والأربعين:
قيل لأبي الخير: حدثنا عن معرفة الله، تقدس وعلا، ضرورة هي أم استدلال؟ فإن المتكلمين في هذا اختلفوا اختلافاً شديداً، وتنابذوا عليه تنابذاً بعيداً، ونحب أن يحصل لنا جواب، فيفسر على حد الإختصار مع البيان.
فقال: هي ضرورة من ناحية العقل، واستدلال من ناحية الحس، ولما كان كل مطلوب من العلم إما أن يطلب بالعقل في المعقول، أو بالحس في المحسوس، ساغ أن يظن مرة أن معرفته تعالى اكتساب واستدلال، لأن الحسن يتصفح ويستقوي بمؤازرة العقل ومظاهرته وتحصيله، وأن يظن تارة أنها ضرورة، فإن العقل السليم من الآفة، البريء من العاهة، يحث على الإعتراف بالله تقدس اسمه، ويحظر على صاحبه جحده وإنكاره والتشكك فيه لكن ضرورة فيه لكن ضرورة لائقة بالعقل، لأن ضرورة العقل ليست كضرورة الحس، لأن ضرورة الحس فيها جذب واختيار، وحمل وإكراه، وضرورة العقل لطيفة جدًّا، لأنه يعظ ويلاطف وينصح ويخفف.
ثم ضرب مثلاً لطيفاً، وقال بعده: فعلى هذا، فإن الله تقدس اسمه، معروف عند العقل بالإضطرار، لا ريب عنده في وجوده، ومستدل عليه عند الحس، لأنه يستحيل كثيراً ولا يثبت أصلاً، فمن استدل ترقى من الجزئيات، ومن ادعى الإضطرار انحدر من الكليات.
وكلا الطريقين قد وضح بهذا الإعتبار وكُفي مؤونة الخبط والإكثار.
فأما ما ينظر منه في الجدال، فلا يرث منه إلا الشك والفرقة والحمية والعصبية، وهناك للهوى ولادة وحضانة، وللباطل استيلاء وجولة، وللحيرة ركود وإقامة. أخذ الله بأيدينا، وكفانا الهوى الذي يؤذينا. انتهى.
وقوله تعالى: